فصل: الحكاية الخامسة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)



.العين الثانية معرفة النفس الأخير:

اعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله؟ وهذه الفكرة واجبة على الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيرًا أزعجوا قلوب الخلائق وأنفذوا إلى الناس الغلمان بالسيئات وأفزعوا الخليقة وأدخلوا في قلوبهم الرعب، فإن بحضرة الحق تعالى غلامًا اسمه عزرائيل لا مهرب لأحد من مطالبته وتشتيته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهبًا وفضة وطعامًا وصاحب هذا التوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلًا وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع، وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون إليه اليوم والليلة والساعة وهذا الموكل لا يمهل نفسًا واحدًا وعجائب أحواله كثيرة إلا أنّا نذكر من أحواله خمس حكايات.

.الحكاية الأولى:

وهو ما رواه وهب بن منبه وكان من علماء اليهود وأسلم، روى أنه كان ملك عظيم أراد أن يركب يومًا في جملة أهل مملكته ويري الخلق عجائبه وزينته فأمر أمراءه وحجابه وكبراء دولته رتبة بالركوب ليظهر للناس سلطنته، فأمر بإحضار فاخر الثياب وأمر بعرض خيوله المعروفة، وعتاقه الموصوفة، فاختار من جملتها جوادًا يعرف السبق فركبه بالمركب والطوق المرصع بالجوهر وجعل يركض الحصان في عسكره، ويفتخر بتيهه وتجبره، فجاء إبليس فوضع فمه في منخره ونفخ هواء الكبر في أنف أنفته فقال في نفسه من في العالم مثلي؟ وجعل يركض بالكبرياء، ويزهو بالخيلاء، ولا ينظر إلى أحد من تيهه وكبره، وعجبه وفخره، فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة فسلم عليه فلم يرد عليه سلامه فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: ارفع يدك فإنك لا تدري بعنان من قد أمسكت؟ فقال: لي إليك حاجة، فقال: اذكر حاجتك، فقال: إنها سرُ ولا أقولها إلا في أذنك، فأصغي إليه بسمعه فقال: أنا ملك الموت أريد أن أقبض روحك، فقال: أمهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودّع أولادي وزوجتي، فقال: كلا لا تعود تراهم أبدًا فإنك قد فنيت مدة عمرك، وأخذ روحه وهو على ظهر الفرس فخر ميتًا. وعاد ملك الموت من هناك فأتي رجلًا صالحًا قد رضي ربه عليه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: لي إليك حاجة وهي سر، فقال الصالح: قل حاجتك في أذني، فقال: أنا ملك الموت، فقال: مرحبًا بك الحمد لله على مجيئك فإني كنت كثير الترقّب لوصولك، ولقد طالت علي غيبتك وكنت مشتاقًا إلى قدومك، فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضِه، فقال: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل، فقال: كيف تحب أن أقبض روحك فإني أمرت أنا سجدت فخذ روحي وأنا ساجد، ففعل ملك الموت ما أمره به ونقله إلى رحمة ربه جل وعلا.

.الحكاية الثانية:

روي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالًا عظيمًا من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفّه نفسه، ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعمًا طائلة وبني قصرًا عاليًا، مرتفعًا ساميًا يصلح للملوك والأمراء، والأكابر والعظماء، وركّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان الأجلاد، والحرسة والأجناد، والبوابين كما أراد. وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهل مملكته وحشمه، وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته، واتكأ على وسادته، وقال: يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة، ومخلاته في عنقه معلقة، على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل، وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا: يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتى نأكل ونطعمك مما يفضل، فقال لهم: قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم، وأمر ملم. فقالوا: تنح أيها الضعيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك؟ فقال: أنتم عرّفوه ما ذكرت، فلما عرّفوه من الطرقة الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال: الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت، فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم، ورعبت قلوبهم، وطاشت عقولهم، فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلًا مني، وعوضًا عني. فقال: ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها. فقال: لعن الله هذا المال الذي غرني وأضرني، ومنعني عن عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني، فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله المال حتى قال: لأي شيء تلعنني، العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدّق بي على الفقراء، وتتزكي بي على الضعفاء، ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون لك عونًا في اليوم الآخر، وأنت جمعتني وخزنتني، وفي هواك أنفقتني، ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك، وأنت بحسرتك وضرائك. فأي ذنب لي حتى تلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام، فسقط عن سريره صريع الحمام.

.الحكاية الثالثة:

قال يزيد الرقاشي: كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبارة، وكان في بعض الأيام جالسًا على سرير ملكه فرأى رجلًا قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة، فلشدة خوفه من هجومه، وهيبة قدومه، وثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل؟ ومن أمرك بالدخول إلى داري؟ فقال: صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا أحتاج في دخولي على ملك إلى إذن ولا أرهب من سياسة سلطان، ولا يفزعني جبار، ولا لأحد من قبضتي فرار.
فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده فقال له: أنت ملك الموت؟ قال: نعم. قال: أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يومًا واحدًا لأتوب من ذنبي، وأطلب العذر من ربي، وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي، فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة. فقال: كيف أمهلك، وأيام عمرك محسوبة، وأوقاته مثبوتة مكتوبة؟ فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعات في الحساب، وقد عبرت وأنت غافل، وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد. فقال:من يكون عندي، إذا نقلتني إلى لحدي؟ قال: لا يكون عندك سوى عملك. فقال: مالي عمل. قال: لا جرم يكون مقيلك إلى النار، مصيرك إلي غضب الجبار.
ثم قبض روحه فخر من سريره ووقه، وعلا الضجيج من أخل مملكته وارتفع، ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم أكثر وعويلهم أوفر.

.الحكاية الرابعة:

يقال أن ملك الموت دخل على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل يحد نظره، ويطيل بصره، إلى رجل من ندمائه، فلما خرج قال ذلك الرجل: يا بني الله من كان ذلك الرجل الذي دخل؟ فقال: ملك الموت. فقال: أخاف أن يريد قبض روحي فخلصني من يده. فقال: كيف أخلصك؟ فقال: تأمر الريح أن تحملني في هذه الساعة إلى بلاد الهند، لعله يضل عني ولا يجدني.
فأمر سليمان الريح فحملته في الوقت والحال، فعاد ملك الموت ودخل على سليمان بن داود، عليهما السلام،فلما دخل عليه قال له: لأي سبب كنت تطيل النظر إلى ذلك الرجل؟ قال: كنت أتعجب منه لأني أُمرت أن أقبض روحه في أرض الهند، وكان بعيدًا عنها إلى أن اتفق بحمل الريح له إلى هناك، فكان ما قدره الله تعالى.

.الحكاية الخامسة:

يروى أن ذا القرنين مر بقوم لا يملكون شيئًا من أسباب الدنيا، وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وهم كل يوم يتعمّدون تلك القبور يكنّسونها وينظّفونها وينخرونها ويزورونها ويعبدون الله فيها، وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض. فبعث إليهم ذو القرنين رجلًا فدعا ملكهم فلم يجبه، وقال: ما لي وله. فجاء ذو القرنين، وقال: كيف حالكم؟ فإني لا أرى لكم شيئًا من ذهب ولا فضة، ولا أرى عندكم شيئًا من نعم الدنيا؟ قال: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط. وقال: لم حفرتم القبور على أبوابكم؟ فقال: لتكون نصب أعيننا فننظر إليها، ويتجدد لنا ذكر الموت، ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا، فقال: ولم تأكلون الحشيش؟ فقال: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبورًا للحيوانات، ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مد يده إلى طاقة فاخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين، أتعرف من كان صاحب هذا؟ قال: كان صاحب هذا القحف ملكاُ من ملوك الدنيا، وكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا، فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه، ثم مد يده إلى الطاقة وأخرج قحفًا آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا؟ قال: كان هذا ملكًا عادلًا مشفقًا على رعيته محباُ لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته، ورفع درجته، ثم إنه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أيّ هذين الرأسين يكون هذا الرأس؟ فبكى ذو القرنين بكاء شديدًا وضمه إلى صدره، فقال: هيهات ما لي رغبة في ذلك. قال: ولم؟ قال: لأن الناس جميعًا أعداؤك بسبب المال والمملكة، وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة، فالله تعالى معك فالآن يجب أن تعرف حكايات النفس الأخير وتتيقن معرفتها.
واعلم أن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم، وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يصف أجر الشهداء وثواب السعداء الذين قتلوا في معركة حرب الكفار فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هل ينال ثواب الشهداء من لم يمت شهيدًا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة كان له مثل أجر الشهداء ودرجتهم».
وقال عليه الصلاة والسلام: «أكثر من ذكر الموت فإنه يمحو الذنوب ويبرد الدنيا في القلوب». سئل عليه الصلاة والسلام: من أعقل الناس وأحزمهم؟ فقال: أعقل الناس أكثرهم للموت ذكرًا وأحزمهم أحسنهم له استعدادًا. له شرف الدنيا وكرامة الآخرة فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه، وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته، وعلت كلمته، ينّور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته، ويحسن إلى عباد الله وبريته، فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمنًا يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر، شديد الغرر، وإذا صار الشفيع خصمًا أشكل الأمر.